كان السلف -رحمهم الله- إذا حجّوا أصابهم من الخشوع والخضوع ما يستجلب رحمة الله تعالى ومغفرته لهم. وكانوا يكثرون من الدعاء والبكاء والتضرّع.
* عن علي بن الفضيل أنه دخل الحرم ليطوف، فرأى سفيان الثوري ساجدًا عند الكعبة، فطاف شوطًا وسفيان لم يرفع رأسه، ثم طاف الثاني والثالث... حتى أكمل سبعة أشواط، وسفيان لم يرفع رأسَهُ من سجوده.
* ووقف الفُضيل بن عياض -رحمه الله- بعرفة والناسُ يدعون وهو يبكي بكاء الثكلى المحترقة، فلمّا كادت الشمس تغرُب قَبض على لحيته، ثمّ رفع رأسهُ إلى السماء وقال: واسَوْءَتاه منك وإن عفوتَ!
* وكان مسروق -رحمه الله- إذا حج أَكثرَ العبادةَ وقيام الليل، حتى قال عنه الإمام أحمد: حج مسروق فما بات إلا ساجدًا.
* وحجّ الأسود بن يزيد النّخعي ثمانين ما بين حجة وعمرة، وحج مرة مع علقمة بن قيس، وكان الأسود صاحب عبادة، فصام يومًا حارًّا فتربّد وجهه وتغيّر، فأتاه علقمة فضرب على فخذه وقال: عَلامَ تعذِّب هذا الجسد؟ فقال الأسود: يا أبا شبل، الراحةَ أُريدُ له؛ إن الأمر جِدٌّ، إن الأمر جِدّ.
* وكان محمد بن واسع يصلي في طريق مكة ليلة أجمع في محمله، يومئ إيماء، ويأمر حاديه أن يرفع صوته خلفه، حتى يشغل عنه بسماع صوت الحادي فلا يتفطن له.
* وكان المغيرة بن الحكيم الصنعاني يحج من اليمن ماشيًا، وكان له ورد بالليل يقرأ فيه كل ليلة ثلث القرآن، فيقف فيصلي حتى يفرغ من ورده، ثم يلحق بالركب متى لحق بهم، فربما لم يلحقهم إلا في آخر النهار.
* ذكر عن مالك بن أنس -رحمه الله تعالى- قال: صحبت جعفر الصادق، فلما أراد أن يلبي تغير وجهه وارتعدت فرائصه، فقلت: ما لك يابن رسول الله ؟ فقال: أردت أن أُلبِّي. قلت: فما يوقفك؟ قال: أخاف أن أسمع غير الجواب.
* ابن المبارك والماء المبارك:
يتجه ذلك الرجل العابد الزاهد العالم المتحدث الفقيه، يتجه إلى زمزم، يتجه الرجل المبارك في البلد المبارك، في الزمن المبارك، إلى الماء المبارك، يتجه إلى ماء زمزم، فيقول: اللهم إن رسولك قد قال: "ماء زمزم لما شُرب له". اللهم إني أشربه لعطش يوم القيامة!!
* سفره للحج:
إن ابن المبارك كان إذا أعدّ عُدَّته للسفر للحج، وأزمع المسير إلى البيت الحرام اجتمع إليه إخوانه وأصدقاؤه من أهل مَرْو، فيقولون: نصحبك، فيقول: هاتوا نفقاتكم؛ فيأخذ نفقاتهم، فيجعلها في صندوق ويقفل عليها، ثم يكتري لهم، ويخرجهم من مرْو إلى بغداد، فلا يزال ينفق عليهم، ويطعمهم أطيب الطعام، وأطيب الحلوى، ثم يخرجهم من بغداد بأحسن زي وأكمل مروءة، حتى يصلوا إلى مدينة الرسول ، فيقول لكل واحد منهم: ماذا أمَرَك عيالُك أن تشتري لهم من المدينة من طُرِفها؟ فيقول: كذا وكذا، ثم يخرجهم إلى مكة، فإذا قضوا حجهم، قال لكل واحد منهم: ماذا أمرك عيالك أن تشتري لهم من متاع مكة؟ فيقول: كذا وكذا، ثم يخرجهم من مكة، فلا يزال ينفق عليهم إلى أن يصلوا إلى بلادهم "مرَوْ"، فيجصص بيوتهم وأبوابهم، فإذا كان بعد ثلاثة أيام عمل لهم وليمة وكساهم، فإذا أكلوا وسُرّوا، دعا بالصندوق الذي كان قد وضع فيه نفقاتهم، ففتحه ودفع إلى كل رجل منهم صُرَّته وعليها اسمه، كاملة لم ينقص منها شيء؛ لأنه جعل الإنفاق عليهم كله من ماله الخاص، فيا له من كرم فياض!!
* من أحوال الصالحين بعرفة:
رفعوا الأكُفَّ وأرسلوا الدعواتِ وتجـرَّدوا للـه في عـرفـاتِ
شعثًا.. تُجِلِّلُهُم سحائبُ رحمةٍ غُبْرًا.. يفيضُ النور في القَسَماتِ
وكأنَّ أجنحةَ الملائكِ عـانقت أرواحَهُـم بالـبِرِّ والطاعـاتِ
فتنـزَّلت بين الضلوع سكينةٌ علويَّةٌ.. موصـولةُ النفحـاتِ
وتصاعـدتْ أنفاسُهُم مشبوبةً وَجْدًا.. يسيل بواكِفِ العَبَـراتِ
هذي ضيوفُـك يا إلهي تبتغي عفوًا وتـرجـو سـابغَ البركـاتِ
غصَّت بهم في حَلِّهِم ورَحيلِهِم رَحْبُ الوِهادِ وواسعُ الفَلَـواتِ
تركوا وراء ظهورهم دنيا الوَرَى وأَتَـوْكَ في شوقٍ وفي إخْبـاتِ
وَفَدُوا إلى أبواب جُودِك خُشَّعًا وتـزاحموا في مَهْبِط الرحمـاتِ
فاقْبَلْ إلـهَ العرشِ كل ضَراعَةٍ وامْحُ الذنوب.. وكَفِّرِ الـزلاَّتِ
* فاروق الأمة يبكي:
في يوم عرفة في يوم الجمعة، في أعظم وأجلّ وأنقى وأتقى موقف تشهده عرفات، موقف بديع وموكب نوراني يتقدمه محمد ، عرفات ترتج بدعاء الصحابة الميامين، الأودية تدوي بنغمات الموحِّدين، وآهات المتأوهين، الرسول يناجي ربه وينطرح بين يديه، يصعد الجبل فيخطب في مائة وعشرين ألفًا من الصحابة، الجميع آذانٌ صاغية لكلماته ونبراته التي كانت -بقدرة الله تعالى- تصل إلى كل قلب قبل الآذان، رغم ضخامة العدد وجلال الموقف، ولم يكن هنالك مكبرات للصوت، ولكن نسمات الريح كانت بإذن ربها تتبختر فرحًا، وهي تطير بعذوبة الكلمات النبوية، فتلامس بها جميع الأسماع، وتطرق بها القلوب المتعطشة.
في هذه الأثناء، وفي زحمة هذا الموقف الخالد، تتنزل على رسول الله آيةٌ من أعظم الآيات، ودرة من أغلى الدرر، ومِنّة من أعظم المنن، ولكنها في الوقت نفسه تحمل في طياتها نعيه ، الذي فهمه أهل الفهم والإلهام، ينزل عليه قول الله : {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. هنا ينتفض فاروق الأمة عمر بن الخطاب، وتأخذه الرعشة، وتخنقه العبرة، فتسيل دموعه مدرارًا!!
لماذا يبكي عمر؟ إنها آية رائعة، ومنة من الله عظيمة، وكلام يثلج الصدور!! حقًّا إنه موقف غريب! تعجب منه رسول الله ، فهمس في أذن صاحبه وفاروقه: "ما يبكك يا عمر؟" يكفكف عمر دموعه، ويمسح عبراته، ويجيب -ولصدره أزيز ونشيج-: يا رسول الله، أبكاني أنَّا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذا أكمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص.
حسب القوافي وحسبي حين أبديهـا أني إلى ساحة الفاروق أهديها
قد كنتَ أعدى أعاديها فصرت لها بنعمة الله حصنًا من أعاديهـا
يا لها من عبقرية! يا له من فقه نوراني! يا له من ذكاء خارق! يا لها من نفس مؤمنة تكاد تستشفّ الحقائق من وراء الحجب! يتعجب من فقه عمر وفهمه الصائب، فيجيبه في إعجاب وإكبار واعتراف: "صدقت". نعم والله يا أمير المؤمنين صدقت، ولقد حدث ذلك النقص الذي لا يعوّض أبدًا، فقد مات بعد هذا اليوم الذي تنزلت فيه هذه الآيات بإحدى وثمانين ليلة، كما قال ابن جرير رحمه الله.
* كان حكيم بن حزام t يقف بعرفة ومعه مائة بَدَنة مقلدة ومائة رقبة فيعتق رقيقه، فيضج الناس بالبكاء والدعاء، يقولون: ربنا هذا عبدك قد أعتق عبيده، ونحن عبيدك فأعتقنا! وجرى للناس مرة مع الرشيد نحو هذا.
* وقف مطرف بن عبد الله بن الشخير وبكر المزني بعرفة، فقال أحدهما: اللهم لا ترد أهل الموقف من أجلي! وقال الآخر: ما أشرفه من موقف وأرجاه لأهله لولا أني فيهم. يا لتواضع الصالحين! ويا لأدبهم مع ربهم وخوفهم مع حسن سيرتهم.
* وقف الفضيل بعرفة والناس يدعون، وهو يبكي بكاء الثكلى المحترقة، قد حال البكاء بينه وبين الدعاء، فلما كادت الشمس أن تغرب رفع رأسه إلى السماء وقال: واسوءتاه منك وإن عفوت.
الفضيل الحيِيُّ يقول هذا، وهو طبيب القلوب الذي كان ابن عيينة شيخ الحجاز يقبِّل يده! وانظر إلى تواضع الفضيل لتعرف لِمَ رفع الله ذكره بين الصالحين.
* وروي عن الفضيل أنه نظر إلى تسبيح الناس وبكائهم عشية عرفة، فقال: أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل فسألوه دانقًا -يعني سدس درهم- أكان يردهم؟ قالوا: لا. قال: والله، للمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق.
* قال الفضيل لشعيب بن حرب بالموسم: إن كنت تظن أنه شهد الموقف أحد شر مني ومنك، فبئس ما ظننت!
* قال ابن المبارك: جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة وهو جاثٍ على ركبتيه وعيناه تهملان، فقلت له: مَنْ أسوأ هذا الجمع حالاً؟ قال: الذي يظن أن الله لا يغفر له.
وإني لأدعو الله أطلب عفـوه وأعلم أن اللـه يعفـو ويغفـر
لئن أعظم الناس الذنوب فإنها وإن عظُمت في رحمة الله تصغر
المصدر: موقع قصة الإسلام